سورة يونس - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنا بينا فيما سلف، أن القوم إنما التمسوا منه ذلك الالتماس، لأجل أنهم اتهموه بأنه هو الذي يأتي بهذا الكتاب من عند نفسه، على سبيل الاختلاق والافتعال، لا على سبيل كونه وحياً من عند الله. فلهذا المعنى احتج النبي عليه الصلاة والسلام على فساد هذا الوهم بما ذكره الله تعالى في هذه الآية. وتقريره أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتاباً ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين. وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى، فقوله: {لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} حكم منه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن وحي من عند الله تعالى، لا من اختلاقي ولا من افتعالي. وقوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ} إشارة إلى الدليل الذي قررناه، وقوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} يعني أن مثل هذا الكتاب العظيم إذا جاء على يد من لم يتعلم ولم يتلمذ ولم يطالع كتاباً ولم يمارس مجادلة، يعلم بالضرورة أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي والتنزيل. وإنكار العلوم الضرورية يقدح في صحة العقل. فلهذا السبب قال: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
المسألة الثانية: قوله: {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} هو من الدراية بمعنى العلم.
قال سيبويه: يقال دريته ودريت به، والأكثر هو الاستعمال بالباء. والدليل عليه قوله تعالى: {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} ولو كان على اللغة الأخرى لقال ولا أدراكموه.
إذا عرفت هذا فنقول: معنى {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي ولا أعلمكم الله به ولا أخبركم به.
قال صاحب الكشاف: قرأ الحسن {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} على لغة من يقول أعطأته وأرضأته في معنى أعطيته وأرضيته ويعضده قراءة ابن عباس {وَلاَ أَنذَرْتُكُمْ بِهِ} ورواه الفراء {وَلاَ أدرأتكم} به بالهمز، والوجه فيه أن يكون من أدرأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارياً، والمعنى: ولا أجعلكم بتلاوته خصماء تدرؤنني بالجدال وتكذبونني، وعن ابن كثير {ولأدرأكم} بلام الابتداء لإثبات الإدراء.
وأما قوله تعالى: {بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ} فالقراءة المشهورة بضم الميم، وقرئ {عُمُراً} بسكون الميم.


{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر، وذلك لأنهم التمسوا منه قرآناً يذكره من عند نفسه، ونسبوه إلى أنه إنما يأتي بهذا القرآن من عند نفسه، ثم إنه أقام البرهان القاهر الظاهر على أن ذلك باطل، وأن هذا القرآن ليس إلا بوحي الله تعالى وتنزيله، فعند هذا قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} والمراد أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله، لما كان في الدنيا أحد أظلم على نفسه مني، حيث افتريته على الله، ولما أقمت الدلالة على أنه ليس الأمر كذلك، بل هو بوحي من الله تعالى وجب أن يقال إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه منكم، لأنه لما ظهر بالبرهان المذكور كونه من عند الله، فإذا أنكرتموه كنتم قد كذبتم بآيات الله. فوجب أن تكونوا أظلم الناس. والحاصل أن قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} المقصود منه نفي الكذب عن نفسه وقوله: {أوكذَّب بآياته} المقصود منه إلحاق الوعيد الشديد بهم حيث أنكروا دلائل الله، وكذبوا بآيات الله تعالى.
وأما قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون} فهو تأكيد لما سبق من هذين الكلامين، والله أعلم.


{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}
اعلم أنا ذكرنا أن القوم إنما التمسوا من الرسول صلى الله عليه وسلم قرآناً غير هذا القرآن أو تبديل هذا القرآن ل، أن هذا القرآن مشتمل على شتم الأصنام التي جعلوها آلهة لأنفسهم، فلهذا السبب ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما يدل على قبح عبادة الأصنام، ليبين أن تحقيرها والاستخفاف بها أمر حق وطريق متيقن.
واعلم أنه تعالى حكى عنهم أمرين: أحدهما: أنهم كانوا يعبدون الأصنام.
والثاني: أنهم كانوا يقولون: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله}.
أما الأول فقد نبه الله تعالى على فساده بقوله: {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} وتقريره من وجوه:
الأول: قال الزجاج: لا يضرهم إن لم يعبدوه ولا ينفعهم إن عبدوه.
الثاني: أن المعبود لابد وأن يكون أكمل قدرة من العابد، وهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ألبتة، وأما هؤلاء الكفار فهم قادرون على التصرف في هذه الأصنام تارة بالإصلاح وأخرى بالإفساد، وإذا كان العابد أكمل حالاً من المعبود كانت العبادة باطلة.
الثالث: أن العبادة أعظم أنواع التعظيم، فهي لا تليق إلا بمن صدر عنه أعظم أنواع الأنعام، وذلك ليس إلا الحياة والعقل والقدرة ومصالح المعاش والمعاد، فإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله سبحانه وتعالى، وجب أن لا تليق العبادة إلا بالله سبحانه.
وأما النوع الثاني: ما حكاه الله تعالى عنهم في هذه الآية، وهو قولهم: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} فاعلم أن من الناس من قال إن أولئك الكفار توهموا أن عبادة الأصنام أشد في تعظيم الله من عبادة الله سبحانه وتعالى. فقالوا ليست لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى بل نحن نشتغل بعبادة هذه الأصنام، وأنها تكون شفعاء لنا عند الله تعالى. ثم اختلفوا في أنهم كيف قالوا في الأصنام إنها شفعاؤنا عند الله؟ وذكروا فيه أقوالاً كثيرة: فأحدها: أنهم اعتقدوا أن المتولي لكل أقليم من أقاليم العالم، روح معين من أرواح عالم الأفلاك، فعينوا لذلك الروح صنماً معيناً واشتغلوا بعبادة ذلك الصنم، ومقصودهم عبادة ذلك الروح، ثم اعتقدوا أن ذلك الروح يكون عبداً للإله الأعظم ومشتغلاً بعبوديته.
وثانيها: أنهم كانوا يعبدون الكواكب وزعموا أن الكواكب هي التي لها أهلية عبودية الله تعالى، ثم لما رأوا أن الكواكب تطلع وتغرب وضعوا لها أصناماً معينة واشتغلوا بعبادتها، ومقصودهم توجيه العبادة إلى الكواكب.
وثالثها: أنهم وضعوا طلسمات معينة على تلك الأصنام والأوثان، ثم تقربوا إليها كما يفعله أصحاب الطلسمات.
ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل، فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى، ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله.
وخامسها: أنهم اعتقدوا أن الإله نور عظيم، وأن الملائكة أنوار فوضعوا على صورة الإله الأكبر الصنم الأكبر، وعلى صورة الملائكة صوراً أخرى.
وسادسها: لعل القوم حلولية، وجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام العالية الشريفة.
واعلم أن كل هذه الوجوه باطلة بالدليل الذي ذكره الله تعالى وهو قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} وتقريره ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة.
قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السموات وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
اعلم أن المفسرين قرروا وجهاً واحداً، وهو أن المراد من نفي علم الله تعالى بذلك تقرير نفيه في نفسه، وبيان أنه لا وجود له ألبتة، وذلك لأنه لو كان موجوداً لكان معلوماً لله تعالى، وحيث لم يكن معلوماً لله تعالى وجب أن لا يكون موجوداً، ومثل هذا الكلام مشهور في العرف، فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول: ما علم الله هذا مني، ومقصوده أنه ما حصل ذلك قط، وقرئ {أَتُنَبّئُونَ} بالتخفيف أما قوله: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فالمقصود تنزيه الله تعالى نفسه عن ذلك الشرك، قرأ حمزة والكسائي {تُشْرِكُونَ} بالتاء، ومثله في أول النحل في موضعين، وفي الروم كلها بالتاء على الخطاب، قال صاحب الكشاف ما موصولة أو مصدرية أي عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم، قال الواحدي: من قرأ بالتاء فلقوله: {أَتُنَبّئُونَ الله} ومن قرأ بالياء فكأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أنت {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ويجوز أن يكون الله سبحانه هو الذي نزه نفسه عما قالوه فقال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8